/تتمة للفائة الاولى /

05/07/2025



/تجلِّي الصفات والأَسماء الإِلهيَّة في حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ/ وبالجملة : لَـمَّا كانت طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة هي : الصفات والأَسماء الْإِلَهِيَّة الحسنىٰ ـ فعليَّة كانت تلك الصفات والأَسماء أَم ذاتيَّة ـ ، وخلصت من شائبة الأَنا والمخلوقيَّة، وصارت تجلِّيات وظهورات للذات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقَدَّسة اَنعكست وظهرت وتجلَّت فيها كافَّة : صفات وأَسماء وكمالات وشؤون الذات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة إِلَّا الأُلوهيَّة ؛ لخروجها موضوعاً وتخصُّصاً. نظيره : أَوَّلاً : ما مرَّ في مثال (المرآة شديدة الصقل والصفاء والاِنْعِكَاس) ؛ والفانية في حكاية ذيها ، فلا تري نفسها ، بل محكيِّها ، ومن ثَمَّ تأخذ جميع صفات محكيِّها ـ إِلَّا ما خرج موضوعاً وتخصُّصاً ـ ، لكنَّه بالتَّبع وإِفاضة منه . ثانياً : ما مرَّ أَيضاً في مثال (الصَّرح) الوارد في قضيَّة بلقيس ؛ فإِنَّه لشدَّة صفائه ، وتمرُّد ذاته ، وفنائها في حكاية ذيه لم يُرِ نفسه ، بل محكيَّه : (اللُّجَّة ـ الماء الغزيرـ) ، وانعكست فيه جميع صفاتها وأَسمائها وكمالاتها وشؤونها وأَحوالها ، فحسبته ماءً غزيراً فكشفت عن ساقيها لتتخطَّاه ، ولَـمَّا أُخبرت بالواقع ؛ وأَنَّه : (صرح مُـمرَّد) ؛ فُنيت وتمرَّدت ذاته في حكاية ذيه ، ولم يُرِ نفسه ، بل محكيَّه آمنت بما جاء به النَّبيّ سليمان عليه السلام من دون مهلة ونظر وتردُّد ؛ لإِلتقاطها إِشارة معرفيَّة لمعنىٰ تجلِّيات وظهورات الذات الْإِلَهِيَّة المُقدَّسة في المخلوقات المُكرَّمة. وهذا ما يوضِّح : نكتة وفلسفة إِسناد الباري ـ المُسمَّىٰ ـ (تعالىٰ ذكره) لإِسمين وصفتين من أَسمائه وصفاته المُقدَّسة في كتابه الكريم ، وهما : (ذو الجلال) و(ذو الإِكرام) ، فتارة أَسندهما إِلى ذاته المُقدَّسة . فانظر : بيانه جلَّ قوله : [تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ](13) فإِنَّ (تبارك) فعل ماضي ، و(إسمُ) فاعل ، و(ربِّك) مضاف إِليه مجرور بالكسرة ، و(ذي) صفة ربّك فأخذت حكم الموصوف وهو (الرَّبّ) فجُرَّت بـ : (الياء) ؛ لأَنَّها من الأَسماء الخمسة ، و (الجلال) مضاف إِليه ، و(الإِكرام) معطوف على الجلال . إِذنْ : صفة واسم (ذي الجلال) و(الإِكرام) أسندهما الباري ـ المُسَمَّىٰ ـ (جلَّ ذكره) في المقام إِلى ذاته المُقدَّسة . وتارة أُخرىٰ أسندهما إِلى (وجه الرَّبِّ) ، وهو أَحد المخلوقات المُكرَّمة ؛ وطبقة من طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة في عَالَم السرمد والأَزل ؛ عَالَم الأَسماء والصفات الْإِلَهِيَّة ، وهو(14) أَحد المرادفات الْإِلَهِيَّة العقليَّة للإسم الإِلٰهي والصفة الْإِلَهِيَّة . وحينئذٍ يَصحُّ إِسنادهما(15) إِلى الاسم الإِلٰهي والصفة الْإِلَهِيَّة أَيضاً من دون حزازة ولا شائبة إِشكال . فلاحظ : بيان قوله علا ذكره : [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ](16) . فإِنَّ (يَبْقَى) فعل مضارع ، و(وجهُ) فاعل مرفوع بالضمة ، و(ربِّكَ) مضاف إِليه مجرور بالكسرة ، و(ذو) صفة وجه ، فأخذت حكمه فرفعت بـ (الواو) ؛ لأَنَّها ـ كما تقدَّم ـ من الأَسماء الخمسة ، و(الجلال) مضاف إِليه ، و(الإِكرام) معطوف على الجلال . وإِلى كلِّ هذا تُشير بيانات الوحي الواردة في حقِّ طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ، منها : البيان الأَوَّل : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ (17) : « ... لا تجعلونا أَرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم ؛ فإِنَّكم لا تبلغون كُنْه ما فينا ولا نهايته ؛ فإِنَّ اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ قد أَعطانا أَكبر وأَعظم مِـمَّا يصفه واصفكم ، أَو يخطر على قلب أَحدكم ، فإِذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون ... لا تسمُّونا أَرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم ؛ فإِنَّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنْه ما جعله اللَّـه لنا ، ولا معشار العشر ... »(18). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ ؛ فإِنَّ جملة صفات الذات الْإِلَهِيَّة المُقدَّسة وأَسمائه وكمالاته وفضائله وشؤونه (تقدَّس ذكره) قد انعكست وظهرت وتجلَّت في طبقات حقائقهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) الصَّاعدة ، منها : (صفة عدم التناهي) ، ومن ثَمَّ كيف يُحيط المتناهي بكُنْه غير المتناهي ، وبكُنْه صفاته وأَسمائه وكمالاته وأَفعاله وفضائله وشؤونه غير المتناهية . وهذا ما يُشير إِليه (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) بقوله : « وقولوا في فضلنا ما شئتم ؛ فإِنَّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنْه ما جعله اللَّـه لنا ، ولا معشار العشر » ؛ فإِنَّ (لن) تفيد التأبيد في طُرِّ النَّشَآت والعوالم منها : عَالَم الآخرة الأَبديَّة وما بعده ، كما هو واضح . بل وتُشير إِليه بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : بيان الإِمام الحسن المجتبىٰ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه (19) : « ... أَيُّها النَّاس إِنِّي لو قمتُ حولاً فحولاً أذكر الَّذي أعطانا الله عَزَّ وَجَلَّ وخصَّنا به من الفضل في كتابه وعلى لسان نبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لم أُحصه ... »(20) . وبيان الإِمام الكاظم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... لا تعجب، فما خفي عليك من أَمر الإِمام أَعجب وأَكثر ، وما هذا من الإِمام في علمه إِلَّا كطيرٍ أَخَذَ بمنقاره من البحر قطرة من ماء ، أَفَتَرىٰ الَّذي أخذ بمنقاره نقص من البحر شيئاَ ؟ قال : فإِنَّ الإِمام بمنزلة البحر لا ينفد ما عنده ، وعجائبه أَكثر من ذلك ، والطَّير حين أَخذ من البحر قطرة بمنقاره لم ينقص من البحر شيئاً ...»(21). والنُّكْتَة : واضحةً أَيضاً ؛ فإِنَّ المخلوق مهما علا شأوه وشأن كُنْهه يَبْقَى متناهياً على مَرِّ النَّشَآت والعوالم ، فكيف يُحيط بكُنْه وحقيقة غير المتناهي ، وبكُنْه وحقيقة صفاته وأَسمائه وأَفعاله وكمالاته وفضائله وشؤونه . وإِلَّا لانقلبت ماهيَّة غير المتناهي وصارت متناهية ، وبطلان ـ بل واستحالة ـ انقلاب الماهيَّة من الواضحات ، بل وخلف الفرض . وهذا ما قرَّره أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ في قاعدة معرفيَّة وعقليَّة جزلة وبديهيَّة ، خطيرة الثمار ، عظيمة الفائدة ، يأتي (إِنْ شاء اللَّـه تعالىٰ) التَّعَرُّض لبيانها وبيان أَدلَّتها (22)، وهي : (أَنَّ مَنْ وصف شيئاً بكُنْهه كان أَعظم من الموصوف) . وهذه القاعدة الشَّريفة تنحلُّ إِلى قاعدتين : الأُولىٰ : (أَنَّ مَنْ وصف شيئاً بالكُنْه فقد أَحاط به). الثَّانية : (أَنَّ مَنْ أَحاط بشيءٍ كان أَعظم منه). والمراد من الإِحاطة في هذه القاعدة : أَعمُّ من التَّجرُّديَّة والعقليَّة والجسميَّة(23). وهذه القاعدة غفلت عنها أَجيال العلماء ، بل لم يُسلِّم بها فلاسفة الإِماميَّة فضلاً عن غيرهم مع بداهتها، نعم سلَّم بها أَهل المعرفة ، اقتباساً من بيانات الوحي ، وتفطَّنوا إِلى إِشاراتها(24) الإِرشاديَّة ؛ وأَنَّ كُلَّ معرفةٍ بالذات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة لا تخرج عن الظُّهور والتَّجلِّي ، أَي : معرفة بالآيات . وعليه : فلا يمكن لجملة المخلوقات من رأس هرمها ؛ فعل اللَّـه ومخلوقه الأَوَّل : سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فما دون وصف كُنْه (الذَّات الأَزليَّة المُقدَّسة) أَزلاً وأَبداً، وعبر جملة العوالم والنَّشَآت، وإِلَّا فدعوىٰ كفر وإِلحاد . وهذا أَحد تفاسير بيان قوله تعالىٰ : [وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ](25). نعم، يمكن للمخلوق معرفته (سبحانه وتعالىٰ) من وجهٍ ، ومن خلال أَسمائه وصفاته وأَفعاله وآثاره ، وهذه المعرفة على درجات غير متناهية . وعلى هذا قس معرفة فعل اللَّـه ومخلوقه الأَوَّل ؛ سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ فإِنَّه لا يمكن لسائر جملة المخلوقات من فعل اللَّـه ومخلوقه الثاني أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فما دون معرفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ووصفه بالكُنْه . وهذا ما أَشارت إِليه بيانات الوحي ، منها : بيان قوله تعالىٰ ذكره : [انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا](26). وهكذا الحال في معرفة فعل اللَّـه ومخلوقه الثاني ؛ أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه ؛ فإِنَّه لا يمكن لسائر جملة المخلوقات من فعل اللَّـه ومخلوقه الثالث فاطمة الزهراء صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِا فما دون معرفته (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ووصفه بالكُنْه . وهذا ما أَشارت إِليه بيانات الوحي أَيضاً ، منها : بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ما عرَفَكَ إِلَّا اللَّـه وأَنا »(27 ). وكذا الحال في معرفة فعل اللَّـه ومخلوقه الثالث ؛ فاطمة الزهراء صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْها ؛ فإِنَّه لا يمكن لسائر كافَّة المخلوقات ، وفي جملة عوالم الخلقة أَبد الآباد ودهر الدهور من فعل اللَّـه ومخلوقه الرَّابع الإِمام الحسن المجتبىٰ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فما دون معرفتها صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْها ووصفها بالكُنْه . وعلى هذا قس حال سائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بحسب مراتبهم في الحُجِّيَّة . وإِلى جملة ذلك أَشارت بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، عن جابر بن عبداللَّـه الأَنصاري ، قال : « ... فقلتُ : يا رسول اللَّـه ، هذه حالنا فكيف حالكَ وحال الأَوصياء بعدكَ في الولادة ؟ فسكت رسول اللَّـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مليّاً ثُمَّ قال : يا جابر، لقد سألت عن أمرٍ جسيم ، لا يحتمله إِلَّا ذو حظ عظيم ، إِنَّ الأَنبياء و الأَوصياء مخلوقون من نور عظمة اللَّـه جلّ ثناؤه ... فأمرهم يجلُّ عن أَنْ يوصف ، وأَحوالهم تدّقُّ عن أَنْ تُعلم ؛ لأَنَّهم نجوم اللَّـه في أَرضه ... وأَنواره في بلاده ... يا جابر ، هذا من مكنون العلم ومخزونه ، فاكتمه إِلَّا من أَهله »(28). 2ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... مَنْ ذا ينال معرفتنا أَو يعرف درجتنا أَو يشهد كرامتنا أَو يدرك منزلتنا ؟ حارت الأَلباب والعقول ، وتاهت الأَفهام فيما أَقول ، تصاغرت العظماء وتقاصرت العلماء ، وكلَّت الشعراء ، وخرست البلغاء ، ولكنت الخطباء ، وعجزت الفصحاء ، وتواضعت الأَرض والسماء عن وصف شأن الأَولياء . وهل يُعرف أو يُوصف أو يُعلم أَو يُفهم أَو يُدرك أَو يُملك من هو شعاع جلال الكبرياء ، وشرف الأَرض والسَّماء ؟ جلَّ مقام آل مُحمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عن وصف الواصفين ونعت الناعتين ، وأَنْ يُقاس بهم أَحد من العالمين ، كيف وهم الكلمة العلياء، والتَّسمية البيضاء، والوحدانيَّة الكبرىٰ الَّتي أَعرض عنها من أَدبر وتولَّىٰ ، وحجاب اللَّـه الأَعظم الأَعلىٰ ...»(29). 3ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن مالك بن أَعين ، قال : « أَقبل إِلَيَّ أَبو عبداللَّـه عليه السلام فقال : ... يا مالك ، تراك فقد أَفرطت في القول في فضلنا ؟ إِنَّه ليس يقدر أَحد على صفة اللَّـه وكُنْه قدرته وعظمته ، فكما لا يقدر أَحد على كُنْه صفة الله وكُنْه قدرته وعظمته ، وللَّـه المثل الأَعلىٰ ، فكذلك لا يقدر أَحد على صفة رسول اللَّـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وفضلنا ، وما أعطانا اللَّـه ، وما أَوجبه من حقوقنا ... »(30). ودلالة الجميع قد اِتَّضَحَتْ . وبالجملة : مَنْ يتخيَّل إِمكانيَّة إِكتناه (الذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة)، أَو إِمكانيَّة إِكتناه حقائق وذوات: (الأَسماء والصفات الْإِلَهِيَّة) أَو (الآيات الْإِلَهِيَّة الكبرىٰ) أَو (المخلوقات العظمىٰ) طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ولو كان ذلك تخيُّلاً بسبر فكره وبقراءته ومطالعته للمباحث الفكريَّة والمعرفيَّة والعقائديَّة والفلسفيَّة فقد ارتطم ـ كما يرتطم الحمار بالطين ـ بالوَهَمِ والكفر والإِلحاد الجلي أَو الخفي شعر بذلك أَم لا، ووقع في محذور الفرعونيَّة، وصار جبتاً وطاغوتاً، وصيَّر نفسه صنماً ليُعكف ويُطاف عليها. بعد الْاِلْتِفَات : أَنَّ حقيقة صنم الفكر تكمن في أَن يُجعل طواف الفكر حول غير المعصوم . ومن كُلِّ هذا تتَّضح : كثير من بيانات الوحي ، منها : بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِما وعلى آلهما : « ما عرفني إِلَّا اللَّـه وأنتَ »(31) ؛ فإِنَّ معرفة الباري (تبارك اسمه) بسَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ معرفة ووصف بالكُنْه ، ومعرفة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ معرفة ووصف بوجهٍ ، أَي : من خلال أَسمائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وصفاته وأَفعاله وآثاره . نعم ، المعرفة في بيان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : « ما عرفكَ إِلَّا اللَّـه وأَنا »(32) أَنَّ كلا المعرفتين بالكُنْه . بخلاف بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : « ما عرف اللَّـه إِلَّا أَنا وأَنتَ »(33) أَنَّ كلا المعرفتين من وجهٍ ، ومن خلال الأَسماء والصفات والأَفعال والآثار الْإِلَهِيَّة . /الإِماتة وسائر الأَفعال الْإِلَهِيَّة على طبقات/ وَمِنْ كُلِّ ما تقدَّم يتَّضح : أَنَّ الإِماتة على مراتب وطبقات ودرجات من حيث الغلظة واللطافة. أَحدها : ما يقوم به جنود عزرائيل عليهم السلام . ثانيها : أَلطف وأشف ، وهي : ما يقوم به عزرائيل عليه السلام . ثالثها : أَلطف وأَشف مِمَّا يقوم به عزرائيل عليه السلام ، وهي : ما يقوم به الاسم الإِلٰهي (المميت) ، وهو : أَحد طبقات حقيقة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وحقائق سائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة في مرتبة الأَسماء والصفات الْإِلَهِيَّة . وهذا ما تُشير إِليه بياناتهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم) ، منها : ما تقدَّم ، ويضاف إِليها : 1 ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، مُخاطباً الحارث الهمداني : « يا حار همدان، من يمت يرني ، من مؤمن أَو منافق قبلاً »(34). 2 ـ بيانه (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) أَيضاً ، عن عبد الرحيم القصير، قال : « قلت لأَبي جعفرعليه السلام : حدَّثني صالح بن ميثم ، عن عباية الأَسدي أَنَّه سمع عليّاً عليه السلام يقول : واللَّـه ، لا يبغضني عبد أَبداً يموت على بغضي إِلَّا رآني عند موته حيث يكره ، ولا يحبّني عبداً أَبداً فيموت على حبِّي إِلَّا رآني عند موته حيث يحب . فقال أَبو جعفر عليه السلام : نعم ، ورسول اللَّـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ باليمين »(35) . رابعها : وهي الأَلطف والأَشدُّ على الإِطلاق ، والمهيمنة على جميع ذلك ؛ ما يقوم به : (الـمُميت) ـ المُسَمَّىٰ ـ صاحب الذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة . وعلى هذا قس الإِحياء وسائر الأَفعال والصفات والأَسماء والشؤون(36) . فأَين الغُلُوّ في المقام . /نكتة عدم استيعاب عقول المخلوقات لشؤون أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ/ نعم ، لَـمَّا كانت هذه المعارف الْإِلَهِيَّة بكراً لم تُفتق من قبل قطُّ بهذا الشَّكل والبيان ، ولم يُنبس بها ببنت شفة مع أَنَّ بيانات الوحي زاخرة بها فمن الطبيعي يحصل فيها توقُّف وتردُّد لدىٰ مَنْ يُخبر من ضعيفيِّ الإِيمان بمقاماتهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) وبصفاتهم وأَسمائهم وكمالاتهم وفضائلهم وشؤونهم وأَحوالهم ؛ وإِنْ قام عليها الدَّليل القطعي . مضافاً : أَنَّ ما جادت به يد ساحة القدس الْإِلَهِيَّة على أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عطايا لا تتحمَّل تصوُّرها طاقة وقابليَّة مخلوق قَطُّ ، ولا يمكن خطورها على بالٍ قَطُّ فمن الطبيعي أَيضاً حصول توقُّف وتردُّد لدىٰ من يطَّلع عليها من ضعيفيِّ الإِيمان أَو يُخبر بها وإِنْ قام عليها الدَّليل القطعي . بعد الْاِلْتِفَات : أَنَّ لازم ذلك التوقُّف والشَّكّ والتردُّد : إِلحاد وشرك وكفر باللَّـه (العزيز الجبَّار) . وهذا ما نبَّهت عليه وحذَّرت منه بيانات الوحي ، منها : 1ـ إِطلاق بيان الحديث القدسي : « ... يا مُـحَّمَّد ... وعزَّتي وجلالي ، لو لقيني جميع خلقي يشكُّونَ فيكَ طرفة عين ، أَو يبغضون صفوتي مِنْ ذُرِّيَّتكَ لأَدخلتهم ناري ولا أُبالي ... »(37). 2ـ بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « إِنَّ حديث آل مُـحمَّد صعب مستصعب ، لا يؤمن به إِلَّا مَلَك مُقَرَّبٌ ، أَو نَبِيٌّ مرسل ، أَو عبد امتحن اللَّـه قلبه للإِيمان... وإِنَّما الهالك : أَنْ يُحدَّث بشيءٍ منه لا يحتمله فيقول : واللَّـه ، ما كان هذا شيئاً ، والإِنكار هو الكفر » (38) . 3ـ بيان الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن جابر بن يزيد ، قال : « ... يا جابر ، حديثنا صعب مستصعب ، أَمرد، ذكوان ، وعر أَجرد ، لا يحتمله واللَّـه إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَل ، أَو مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ، أَو مؤمن مُمتحن ، فإذا ورد عليك يا جابر شيءٌ من أَمرنا فلان له قلبكَ فاحمد اللَّـه ، وإِنْ أَنكرته فردَّه إِلينا أَهل البيت ، ولا تقل : كيف جاء هذا ؟ وكيف كان ؟ وكيف هو ؟ فإنَّ هذا واللَّـه الشرك باللَّـه العظيم »(39). ودلالتها واضحة . وبالجملة : لعظم هول ما أُعطي لأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وعظم خطره يحصل لدىٰ من يطَّلع عليه أَو يُخبر به وإِنْ كان بدليل قطعيٍّ يقينيٍّ توقُّفاً أَو شَكّاً أَو تردُّداً أَو إِلحاداً أَو شركاً أَو كفراً بعضه جليّ ، والآخر خفيّ على دركات غير متناهية ، مشمولة ببيان قوله تعالىٰ : [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ](40) ، يرجع إِلى مدىٰ تحمُّل قابِليَّات واستعدادات المخلوق . /حيلولة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ نشر علومهم عند مَنْ لا يتحمَّلها/ ولأَجل الحيلولة من وقوع المخلوقات وفي طُرِّ العوالم ؛ في هذه المحاذير المعرفيَّة العقائديَّة الجسيمة الخطيرة الفادحة ، القاصمة للظهر ، بل لا تبقي ولا تذر منع أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ نشر علومهم عند مَنْ لا يتحمَّلها ، بل سيرتهم قائمة على ذلك . فانظر: بيناتهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) ، منها : 1ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في وصيَّته لكميل بن زياد : « ... يا كميل ، كُلّ مصدور ينفث ، فمن نفث إِليكَ مِنَّا بأمرٍ أَمركَ بستره فإِيَّاك أَنْ تبديه ، فليس لَكَ من إِبدائه توبة ، فإِذا لم تكن توبة فالمصير إِلى لظىٰ . يا كميل ، إذاعة سرّ آل مُـحمَّد عليهم السلام لا يقبل اللَّـه تعالىٰ منها ولا يحتمل أحداً عليها . يا كميل ، وما قالوه لكَ مطلقاً فلا تُعَلِّمه إِلَّا مؤمناً موفَّقاً ... »(41). 2ـ بيان الإِمام زين العابدين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... فأنتم الآن العارفون الفائزون المستبصرون ، وأَنتم الكاملون البالغون ، اللَّـه اللَّـه لا تطّلعوا أَحداً من المقصِّرين المستضعفين على ما رأيتم مِنِّي ومن مُـحمَّد فيشنِّعوا عليكم ويُكذِّبوكم ... »(42). 3ـ بيان الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... ما سترنا عنكم أَكثر مِمَّا أَظهرنا لكم ... »(43). 4ـ إِطلاق بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « إِنِّي لأُحدِّث الرَّجُل الحديث فينطلق فيُحدِّث به عنِّي كما سمعه ، فأستحلُّ به لعنه والبراءة منه »(44). 5ـ إِطلاق بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن داود بن كثير، قال : « قال لي أَبو عبداللَّـه عليه السلام : يا داود ، إِذا حدَّثتَ عنَّا بالحديث فاشتهرت به فأنكره » (45). 6ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن أَبي سعيد المدائني ، قال : « قال أَبو عبداللَّـه عليه السلام : اقرأ موالينا السَّلام ، وأَعلمهم : أَنْ يجعلوا حديثنا في حصون حصينة ، وصدور فقيهة ، وأَحلام رزينة ، والَّذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة ما الشَّاتم لنا عرضاً والنَّاصب لنا حرباً أَشدُّ مؤونة من المذيع علينا حديثنا عند مَنْ لا يحتمله »(46). ودلالة الجميع واضحة. إِنْ قلتَ : إِنَّ ما تقومون به مشمول ببيانات الوحي هذه وغيرها ؛ فإِنَّه إِذاعة لسرِّ آل محمَّد صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ونشر لبيانات وحيانيَّة نُهي الإِصحار بها وتداولها عند المُقَصِّرة ومَنْ لا يحتملها فضلاً عن المغرضين والنَّواصب وأَعداء أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ومن ثَمَّ وجب عدم التَّعَرُّض لها والتَّحَدُّث عنها . قلتُ : إِنَّ هذه البيانات الوحيانيَّة الشَّريفة ناظرة لحالة قبل النشر واشتهار وتفشي ما تعرَّضنا له من بياناتٍ وحيانيَّةٍ ، أَمَّا بعد أَنْ انتشرت واشتهرت وتفشَّت في الكُتُب وفي المصادر الحديثيَّة ـ كما عليه الحال في يومنا هذا ـ ووقعت في يدِ مَنْ هبَّ ودبَّ ، لاسيما المُغرضين والمُقصِّرة والمُستضعفين ، والنَّواصب وأَعداء أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وجب على مَنْ له المِكْنَة الدفاع عنها ، وبيان فلسفتها ونكاتها ونتفها المعرفيَّة والعلميَّة والعقليَّة ، لتُدفع أَو تُرفع الشبهات والإِشكالات والتساؤلات الَّتي يمكن أَنْ تُثار ، بل وتُثار عليها ، وما يمكن أَنْ يُحوم حومها . /طبقات تحمُّل علوم ومعارف أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ/ وبالجملة : أَنَّ ما أُعطي من علوم ومعارف إِلٰهيَّة لأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ على مراتب وطبقات غير متناهية ؛ فبعضها لا يحتملها إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللّٰـه في قلبه الإِيمان . فانظر : بيانات الوحي ، منها : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « إِنَّ أَمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إِلَّا من كتب اللَّـه في قلبه الإِيمان »(47). وبعضها الآخر لا يحتملها إِلَّا نبيٌّ مرسلٌ ، أَو ملكٌ مُقَرَّب ، أَو مؤمنٌ مُـمتحنٌ . فلاحظ : بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : ما تقدَّم . وبعضها الثالث لا يحتملها لا نبيّ مرسل ـ كـ : النَّبيِّ إِبراهيم ـ ولا مَلَك مُقَرَّب ـ كـ : جبرئيل عليه السلام ـ ولا مؤمن ممتحن ـ كـ : سلمان رضوان اللَّـه عليه ـ إِلَّا مَنْ شاؤوا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . فانظر : بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن أَبي الصَّامت ، قال : « إِنَّ حديثنا صعب مستصعب ، شريف كريم ، ذكوان ذكيٌّ وعر ، لا يحتمله مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ، ولا نبيٌّ مرسَلٌ ، ولا مؤمن مُـمْتَحن . قلتُ : فَمَنْ يحتملهُ جعلتُ فداك ؟ قال : مَنْ شئنا يا أَبا الصامت . قال أبو الصَّامت : فظننتُ أَن للَّـه عباداً هُم أفضل من هؤلاء الثلاثة »(48). وبعضها الرَّابع لا يحتملها إِلَّا هم (صلوات اللّٰـه عليهم) . فلاحظ : بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن أَبي الصَّامت ، قال : « سمعتُ أَبا عبداللَّـه عليه السلام يقول : إِنَّ من حديثنا مالا يحتمله مَلَك مُقَرَّب ، ولا نبيٌّ مُرسَل ، ولا عبد مؤمن . قلتُ : فَمَنْ يحتمله ؟ قال : نحن نحتمله »(49). وإِلى كُلِّ هذا أَشارت بيانات الوحي ، منها : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... إنَّ عندنا سرّاً مِنْ سرِّ اللَّـه ، وعلماً من علم اللَّـه لا يحتمله مَلَك مُقَرَّب ، ولا نبيّ مُرسَل ، ولا مؤمن أَمتحن اللَّـه قلبه للإِيمان ، واللَّـه ما كلَّف اللَّـه أَحَداً ذلك الحمل غيرنا ، ولا استعبد بذلك أَحداً غيرنا ، وإِنَّ عندنا سرّاً من سرِّ اللَّـه ، وعلماً من علم اللَّـه أَمرنا اللَّـه بتبليغه ، فبلَّغنا عن اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ ما أَمرنا بتبليغه ، ما نجد له موضعاً ، ولا أَهلاً ولا حمَّالة يحملونه حتَّىٰ خلق اللَّـه لذلك أَقواماً ؛ خُلقوا من طينةٍ خُلق منها مُـحمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وذرِّيَّته ، ومن نور خلق اللَّـه منه مُـحمَّداً وَذُرِّيَّته ، وصنعهم بفضل صنع رحمته الَّتي صنع منها مُـحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ فبَّلغناهم عن اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ ما أَمرنا بتبليغه ، فقبلوه واحتملوا ذلك ، وبلغهم ذاك عنَّا فقبلوه واحتملوه ، وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إِلى معرفتنا وحديثنا ، فلولا أَنَّهم خُلقوا من هذا لَـمَا كانوا كذلك ، ولا واللَّـه ما احتملوه . ثُمَّ قال : إِنَّ اللَّـه خلق قوماً لجهنَّم والنَّار ؛ فأَمرنا أَنْ نُبَلِّغهم كما بلَّغناهم فاشمأزوا من ذلك ، ونفرت قلوبهم وردوه علينا ، ولم يحتملوه ، وكذبوا به ... فطبع اللَّـه على قلوبهم وأَنساهم ذلك ، ثُمَّ أَطلق اللَّـه لسانهم ببعض الحقِّ ، فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة ؛ ليكون ذلك دفعاً عن أَوليائه وأَهل طاعته ، ولولا ذلك ما عُبد اللَّـه في أَرضه ، فأمرنا بالكفِّ عنهم ، والكتمان منهم ، فاكتموا مِـمَّن أَمر اللَّـه بالكفِّ عنهم ، واستروا عمَّن أَمر اللَّـه بالستر والكتمان منهم ، قال : ثُمَّ رفع يده وبكىٰ وقال : اللَّهُمَّ ، إِنَّ هؤلاء لشرذمةٍ قليلون فاجعل محياهم محيانا ، ومماتهم مماتنا ، ولا تُسَلِّط عليهم عدواً لك فتفجعنا بهم ؛ فإِنَّكَ إِن فجعتنا بهم لم تُعبد أَبداً في أَرضك »(50). /نُكْتَةُ إِبتلاءات بعض الأَنبياء عليهم السلام/ وهذا ما يُوضِّح : نُكْتَة وفلسفة تعرُّض بعض الأَنبياء عليهم السلام السَّابقين إِلى الإِبتلاءات ، منهم : النَّبيّ آدم عليه السلام ؛ فإِنَّه لَـمَّا عُرضت عليه بعض مقامات وشؤون أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ توقَّف فعوقب بإِبتلائه المعروف وأُخرج من الجنَّة ، وعفي عنه بعد أَن رجع واستغفر وتاب ، لكنَّه لم يُجعل من أَنبياء أُولي العزم عليهم السلام بسبب توقفه . وهكذا النَّبيّ أَيوب عليه السلام ؛ فابتُلي بالمرض وسائر إِبتلاءاته إِلى أَنْ تاب فأدركته السعادة بأَمير المؤمنين وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وعلى هذا قس حال النَّبيّ يونس عليه السلام ، فأبتُلي بالحوت ، وحُبس في بطنه إِلى أَنْ تاب وقَبَل ولاية أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وهذا ما تشير إِليه بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، منضمّاً إِليه بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، قال : « إِنَّ اللَّـه تعالىٰ عرض ولاية عَلِيّ بن أبي طالب عليه السلام على أَهل السَّماوات وأَهل الأَرض فقبلوها ما خلا يونس بن متى ، فعاقبه اللَّـه وحبسه في بطن الحوت ؛ لإنكاره ولاية أَمير المؤمنين عَلِيّ بن أَبي طالب عليه السلام حتَّىٰ قبلها » . قال أبو يعقوب(51) : « فنادىٰ في الظلمات أَنْ لا إِلٰه إِلَّا أَنْتَ سبحانك إِنِّي كنت من الظالمين لإنكاري ولاية عَلِيّ بن أبي طالب عليه السلام » . قال أبو عبد اللَّـه : فأنكرتُ الحديث فعرضته على عبداللَّـه بن سليمان المدنيّ فقال لي : « لا تجزع منه ؛ فإنَّ أَمير المؤمنين عَلِيّ بن أبي طالب عليه السلام خطب بنا بالكوفة ، فحمد اللَّـه تعالىٰ وأَثنىٰ عليه ، فقال في خطبته : « فلولا إِنَّه كان من المُقِرِّين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون » . فقام إِليه فلان بن فلان وقال : يا أَمير المؤمنين ؛ إِنَّا سمعنا اللَّـه(52): [فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ] . فقال : أُقعد يا بكّار ؛ « فلولا إِنَّه كان من المُقِرِّين للبث ... إلى آخِر الآية »(53) »(54 ) . 2ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، مُخاطِباً سلمان (رضوان اللَّـه عليه) : « ... يا سلمان ، أَنا الَّذي دُعيت الأُمم كُلِّها إِلى طاعتي فكفرت فعُذِّبت بالنَّار ... » . قال سلمان : ... وأَنتَ قصَّة أَيُّوب وسبب تغيُّر نعمة اللَّـه عليه . فقال أَمير المؤمنين عليه السلام : « أتدري ما قصَّة أَيُّوب ، وسبب تغيُّر نعمة اللَّـه عليه ؟ قال : اللَّـه أعلم وأَنْتَ يا أمير المؤمنين . قال : لَـمَّا كان عند الانبعاث للنطق شَكَّ أَيُّوب في ملكي ، فقال : هـذا خطب جليل وأَمـر جسيم . قـال اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ : يا أَيُّوب أَتَشكُّ في صورة أقمته أَنا ؟ إِنِّي ابتليتُ آدم بالبلاء فوهبته له وصفحت عنه بالتسليم عليه بأَمرة المؤمنين ، وأنت تقول : خطب جليل ، وأَمر جسيم ؟! فوعزَّتي لأُذيقنَّك من عذابي أَو تتوب إِلَيّ بالطَّاعة لأَمير المؤمنين . ثُمَّ أَدركته السَّعادة بي ؛ يعني : أَنَّه تاب وأذعن بالطَّاعة لأَمير المؤمنين عليه السلام وعلى ذرِّيَّته الطَّيبين عليهم السلام »(55). 3ـ بيان تفسير الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وبيان نُكْتَةُ عدم جعل النَّبيّ آدم عليه السلام من أَنبياء أُولي العزم عليهم السلام : «في قول اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ : [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا](56) قال : عهد إِليه في مُـحمَّد والأَئمَّة من بعده فترك ، ولم يكن له عزم فيهم أَنَّهم هكذا ... »(57). 4ـ بيان الإِمام الرضا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... وإِنَّ آدم عليه السلام لَـمَّا أَكرمه اللَّـه (تعالىٰ ذكره) بإسجاد ملائكته له ، وبإدخاله الجنَّة قال في نفسه : هل خلق اللَّـه بشراً أَفضل منِّي ؟ فعلم الله عَزَّ وَجَلَّ ما وقع في نفسه ، فناداه : ارفع رأسَكَ يا آدم ، فانظر إِلى ساق عرشي ، فرفع آدم رأسه فنظر إِلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً : لا إِلٰه إِلَّا اللَّـه ، مُـحَمَّد رسول اللَّـه ، عَلِيّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وزوجته فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنَّة . فقال آدم عليه السلام : يا ربّ ، مَنْ هؤلاء؟ فقال عَزَّ وَجَلَّ : من ذُرِّيَّتك ، وهم خير منكَ ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقتكَ ولا خلقتُ الجنَّة والنَّار ، ولا السَّماء والأَرض ، فإِيَّاك أَنْ تنظر إِليهم بعين الحسد فأُخرجكَ عن جواري . فنظر إِليهم بعين الحسد ، وتمنَّىٰ منزلتهم ، فتسلَّط الشَّيطان عليه حتَّىٰ أكل من الشَّجرة الَّتي نُهي عنها، وتسلَّط على حوَّاء؛ لنظرها إِلى فاطمة عليها السلام بعين الحسد حتَّىٰ أَكلت من الشَّجرة كما أَكل آدم ، فأخرجهما اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ عن جنَّته ، وأَهبطهما عن جواره إِلى الأرض »(58). ودلالة الجميع واضحة. /مقامات كُمَّل المخلوقات لا تُعطى إِلاَّ بقدر معرفتهم بأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ/ ثُمَّ إِنَّ كمَّل المخلوقات ـ منهم : الملائكة المُقرَّبين ، والأَنبياء والمرسلين ، والأَوصياء والأَصفياء عليهم السلام ـ لم يُعطوا تلك المقامات والكمالات ولم يُفضَّل بعضهم على الآخر إِلَّا بقدر معرفتهم بأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وبقدر تحمُّل قابليَّاتهم لأَسرارهم . وإِلى هذا تُشير بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان الحديث القدسي ، عن ربِّ العزَّة (تقدَّس ذكره)، مخاطباً سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « ... وَإِنِّي جعلتكم محنة لخلقي ، أَمتحن بكم جميع عبادي وخلقي في سمائي وأَرضي وما فيهنَّ ؛ لأَكمل الثواب لمن أَطاعني فيكم ، وأَحلّ عذابي ولعنتي على مَنْ خالفني فيكم وعصاني ، وبكم أُميِّز الخبيث من الطَّيِّب ... »(59). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ ؛ فإِنَّ جملة المخلوقات ، منهم : كافَّة الملائكة لا سيما المُقرَّبين ، وجميع الأَنبياء والمرسلين ، وسائر الأَوصياء والأَصفياء عليهم السلام لم يُعطَ أَحدٌ منهم مقاماً ـ كـ : مقام : المقرَّبيَّة ، والنُّبُوَّة والرسالة ، والوصاية والاِصطفاء ـ ولا كمالاً ولا فضيلة ، ولا شأناً إِلٰهيّاً البَتَّة في هذا العَالَم ، وفي العوالم السَّابقة واللَّاحِقَة ، ولم يُمَيَّز خبيثٌ عن طيِّبٍ إِلَّا بعد الابتلاءات والاِمتحانات في قدر معرفته بـ : أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وطاعته لهم ، ومدىٰ تحمُّله لأَسرارهم ومعارفهم . 2ـ بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « ... والَّذي نفسي بيده، ما استوجب آدم أَنْ يخلقه اللَّـه وينفخ فيه من روحه وأَنْ يتوب عليه ، ويردَّه إِلى جنَّته إِلَّا بنبوَّتي والولاية لِعَلِيّ بعدي ، والَّذي نفسي بيده ما أَرىٰ إِبراهيم ملكوت السَّماوات والأَرض ، ولا اتَّخذه خليلاً إِلَّا بنبوَّتي والإِقرار لِعَلِيّ بعدي ، والَّذي نفسي بيده ، ما كلَّمَ اللَّـه موسىٰ تكليماً ، ولا أَقام عيسىٰ آية للعالمين إِلَّا بنبوَّتي ومعرفة عَلِيّ بعدي ، والَّذي نفسي بيده ، ما تنبَّأ نبيٌّ إِلَّا بمعرفتي ، والإِقرار لنا بالولاية ، ولا استأهل خلق من اللَّـه النظر إِليه إِلَّا بالعبوديَّة له ، والإِقرار لِعَلِيّ بعدي ... »(60). 3ـ بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَيضاً : « ما تكاملت النُّبوَّة لِنَبِيٍّ في الأَظلَّة حتَّىٰ عرضت عليه ولايتي وولاية أَهل بيتي ، ومُثِّلوا له فأَقَرُّوا بطاعتهم وولايتهم »(61). ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ واضحة. 4ـ إِطلاق بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... أَنَا مُنزل الملائكة منازلها ... أَنَا صاحب الهبات بعد الهبات ولو أَخبرتكم لكفرتم ... أنَا المعطي ، أَنا المبذل ، أَنا القابض يدي على القبض ... »(62). وهذا أَحد تفاسير هذا البيان الشَّريف . 5ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ما نُبِّئ نبيّ قَطُّ إِلَّا بمعرفة حقِّنا ، وبفضلنا على من سوانا »(63). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ ؛ فإِنَّ مقام النُّبُوَّة لم يُعطَ لنبيٍّ قَطُّ إِلَّا بعد معرفته في العوالم السَّالفة بحقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ومعرفة : حقّهم وحقوقهم وبفضلهم على جملة المخلوقات وفي جميع العوالم . 6ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : « ... فَمَنْ أَراد اللَّـه أَنْ يُطَهِّر قلبه من الجنِّ والإِنس عرَّفه ولايتنا ، ومن أَراد أَنْ يطمس على قلبه أَمسكَ عنه معرفتنا ... واللَّـه ، ما استوجب آدم أَنْ يخلقه اللَّـه بيده ، وينفخ فيه من روحه إِلَّا بولاية عَلِيّ عليه السلام ، وما كلَّم الله موسىٰ تكليماً إِلَّا بولاية عِليّ عليه السلام ، ولا أَقَام اللَّـه عيسىٰ بن مريم آية للعالمين ، إِلَّا بالخضوع لِعَلِيّ عليه السلام ، ثُمَّ قال : اجمل الأَمر : ما استأهل خلق من اللَّـه النظر إليه إِلَّا بالعبوديَّة لنا »(64). ودلالته واضحة . 7ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، الوارد في حقِّ فاطمة الزهراء صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْها : « ... وهي الصِّدِّيقة الكبرىٰ ، وعلى معرفتها دارت القرون الأُولىٰ »(65). ودلالته قد اِتَّضحت أَيضاً؛ فإِنَّ مقامات كُمَّل المخلوقات ـ كـ: الملائكة المُقرَّبين، والأَنبياء والمرسلين، والأَوصياء والأَصفياء عليهم السلام ـ وغيرهم وكمالاتهم وشؤونهم لم تعطها يد ساحة القدس الإِلٰهيَّة لهم في العوالم السَّابقة ـ وهي الأَساس ـ إِلَّا على قدر معرفتهم بـ: مراتب طبقات حقيقة فاطمة الزهراء صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْها، وبـ: مقاماتها، وكمالاتها، وفضائلها، وشؤونها. ولوجود تفاوت في معرفتهم بها فُضِّل بعضهم على الآخر. 8 ـ بيان الإِمام الحسن العسكري صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... فالكليم أُلبس حلَّة الإِصطفاء لَـمّا عهدنا منه الوفاء ...»(66). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ أَيضاً ؛ فإِنَّ النَّبيَّ موسىٰ عليه السلام نال الاِصطفاء والنُّبُوَّة والرِّسالة ؛ وسائر المراتب والمقامات الإِلٰهيَّة ؛ لَـمَّا عهد أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ منه الوفاء والإِخلاص لهم . 9ـ بيان زيارتهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) : « ... حتَّىٰ لا يبقىٰ مَلَك مُقرَّب ، ولا نَبِيّ مُرْسَل ، ولا صِدِّيق ولا شهيد ، ولا عَالِم ، ولا جاهل ، ولا دني ولا فاضل ، ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ، ولا جبَّار عنيد ، ولا شيطان مريد ، ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إِلَّا عرَّفه جلالة أَمركم ، وعظم خطركم ، وكبير شأنكم ، وجلالة قدركم ، وتمام نوركم ، و صدق مقاعدكم ، وثبات مقامكم ، وشرف محلَّكم ، ومنزلتكم عنده ، وكرامتكم عليه ، وخاصَّتكم لديه ، وقرب مجلسكم منه ... »(67). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ أَيضاً ؛ فإِنَّ أَحد فلسفات هذا العرض وعلله في بداية الخلقة ، والتعريف بمقامات أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وكمالاتهم وشؤونهم وذلك لاِختبار وامتحان جملة المخلوقات ؛ ليُعطىٰ كُلّ ذي قابليَّة حقَّه وشأنه في المسؤوليَّات المستقبليَّة . البيان الثَّاني : بيان دعاء أَيّام شهر رجب ، الوارد عن النَّاحية المُقدَّسة في حقِّ طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة : « ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَسألُكَ ... بما نطق فيهم من مشيَّتك ، فجعلتهم معادن لكلماتكَ ، وأَركاناً لتوحيدك ، وآياتكَ ومقاماتكَ الَّتي لا تعطيل لها في كُلِّ مكانٍ ، يعرفكَ بها من عرفكَ ، لا فرق بينكَ وبينها إِلَّا أَنَّهم عبادك وخلقكَ ... »(68). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ ؛ فإِنَّه لَـمَّا كانت طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة تمرَّدت ذواتها وماهيَّاتها ، وفنيت فيها جنبة المخلوقيَّة ، وخلصت في حكاية ذيها ، فلم ترِ نفسها ، بل محكيِّها : (الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة) ، وأَصبحت نظير : المرآة شديدة الصقل والصفاء والإِخلاص في الحكاية انعكست وظهرت وتجلَّت فيها كافَّة صفات الذَّات الإِلٰهيَّة المُقدَّسة ، وأَسمائه وكمالاته وشؤونه (تقدَّس ذكره) ؛ إِلَّا الإِلوهيَّة ، فصار : لا فرق بينه (تعالىٰ ذكره) وبينهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) بلحاظ تلك الطبقات إِلَّا أَنَّهم عباده وخلقه ، يعرفه (جلَّ قدسه) بهذه الطبقات المُقدَّسة مَنْ عرفه . فالتفت ، وتدبَّر جيِّداً ، واغتنم تربت يداك . البيان الثَّالث : ما ورد عنهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) : « لنا مع اللَّـه حالات : هو هو ونحن نحن ، وهو نحن ونحن هو »(69). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ أَيضاً ، ولا غبار عليها ؛ فإِنَّه بعد ما كانت طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة خالصة وفانية في حكاية ذيها ، ولا تُري نفسها ، بل محكيَّها : (الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة) انعكست وظهرت وتجلَّت فيها جملة صفات وأَسماء وكمالات وشؤون الباري ـ المُسَمَّىٰ ـ (تعالىٰ ذكره)، صاحب الذَّات الإِلٰهيَّة المُقدَّسة ، فصار بلحاظ تلك الطبقات : « هو (جلَّ شأنه) هم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) ، وهم(صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) هو (جلَّ جلاله) » . نظيره : الصورة المرآتية بالقياس إِلى محكيِّها ؛ (الشَّاخص الخارجي). لكن : حيث إِنَّ هناك شيئاً لا يمكن أَن يتَّصِفُوا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم به وهو : الأُلوهيَّة ، مضافاً : أَنَّه عَزَّ وَجَلَّ هو : الخالق والمعبود ، وهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) : مخلوقون وعبيد ، ويضاف إِليه : أَنَّ صفاته وأَسمائه وكمالاته وشؤونه بالنِّسْبَةِ إِليه (جلَّ وعلا) أَصالة وبالذَّات ، بخلاف صفاتهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) وأَسمائهم وكمالاتهم وشؤونهم ؛ فإِنَّها حكايةٌ ، ووجود ظلِّي ، ومن الغير كان : « هو هو (جلَّ اسمه)» ، و « هم هم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم » . فتدبَّر جيِّداً ، واغتنم تربت يداك . /خلط الملائكة بين الذات المُقدَّسة وحقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة/ ومن كُلِّ ما تقدَّم تتَّضح : نكتة حصول الخلط والْاِشْتِبَاه لدىٰ جملة الملائكة عليهم السلام ـ منهم المُقرَّبين ؛ كـ : إِسرافيل وجبرئيل عليهما السلام ، مع أَنَّ الجميع معصومون ـ وعدم تمكُّنهم من التمييز بين صفات وأَسماء وكمالات وشؤون : (الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة) ، وصفات وأَسماء وكمالات وشؤون : (طبقات حقائق سَيِّد الْأَنْبِيَاء وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة) ؛ والنُّكْتَةُ : ما تقدَّم ؛ من أَنَّ جملة صفات وأَسماء وكمالات وشؤون الذَّات الإِلٰهيَّة المُقدَّسة ـ إِلَّا الأُلوهيَّة ـ قد انعكست وتجلَّت وظهرت في تلك الطبقات المهولة العظيمة الخطيرة الشَّريفة إِفاضة من الذَّات المُقدَّسة . فانظر : بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « ... أَوَّل ما خلق اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ : خلق أَرواحنا ... ثُمَّ خلق الملائكة فلمَّا شاهدوا أَرواحنا نوراً واحداً استعظموا أَمرنا فسبَّحنا ؛ لتعلم الملائكة : أَنَّا خلق مخلوقون ، وأَنَّه مُنزَّه عن صفاتنا ، فسبَّحت الملائكة بتسبيحنا ونزَّهته عن صفاتنا ، فلَمَّا شاهدوا عظم شأننا هلَّلنا ؛ لتعلم الملائكة : (أَنْ لا إِلٰه إِلَّا اللَّـه) وأَنَّا عبيد ، ولسنا بآلهة يجب أَن نُعبد معه ، أَو دونه ، فقالوا : (لا إِلٰه إِلَّا اللَّـه) ، فلَمَّا شاهدوا كبر محلّنا كبَّرنا ؛ لتعلم الملائكة : أَنَّ اللَّـه أَكبر من أَنْ ينال عظم المحل إِلَّا به ، فلَمَّا شاهدوا ما جعله لنا من العزَّة والقوَّة قلنا : (لا حول ولا قوَّة إِلَّا باللَّـه) ؛ لتعلم الملائكة : أَن لاحول لنا ولا قوَّة إِلَّا باللَّـه ، فلَمَّا شاهدوا ما أَنعم اللَّـه به علينا وأَوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا : (الحمد للَّـه) ؛ لتعلم الملائكة : ما يحقُّ للَّـه تعالىٰ ذكره علينا من الحمد على نعمته فقالت الملائكة : (الحمد للَّـه) ، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد اللَّـه وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده ... »(70) . 2ـ بيان حديث المعراج ، عن الإِمام الصادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... إِنَّ اللَّـه (العزيز الجبَّار) عرج بنَبيِّه إِلى سبعاً ... ثُمَّ عرج به إِلى السماء الدُّنيا فنفرت الملائكة إِلى أَطراف السماء ثُمَّ خرَّت سُجَّداً فقالت : (سبوح قدوس ربّنا وربّ الملائكة والروح)، ما أَشبه هذا النُّور بنور ربّنا . فقال جبرئيل عليه السلام : (اللَّـه أكبر، اللَّـه أكبر) . فسكتت الملائكة ، وفتحت أَبواب السَّماء ، واجتمعت الملائكة ثُمَّ جاءت فسلَّمت على النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَفواجاَ ... ثُمَّ عرج به إِلى السماء الثانية ، فلَمَّا قرب من باب السماء تنافرت الملائكة إِلى أَطراف السَّماء وخرَّت سجَّداً وقالت : (سبُّوح قدوس ربّ الملائكة والرُّوح ، ما أَشبه هذا النور بنور ربّنا) . فقال جبرئيل عليه السلام : (أَشهد أَنْ لا إِلٰه إِلَّا اللَّـه ...) فاجتمعت الملائكة وفتحت أَبواب السماء ، وقالت : يا جبرئيل ، مَنْ هذا معك ؟ فقال : هذا محمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ... قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : ... ثُمَّ عُرج بي إِلى السَّماء الثالثة فنفرت الملائكة إِلى أَطراف السَّماء ، وخرَّت سجَّداً ... ثُمَّ عُرج بي إِلى السَّماء الرابعة ... »(71). 3ـ بيان حديث المعراج ، عن الإِمام الصادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : « ... إِنَّ رسول اللَّـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كان نائماً في ظلِّ الكعبة ، فأَتاه جبرئيل عليه السلام ... فأيقظه ... ثُمَّ صعد به حتَّىٰ انتهىٰ إِلى أَبواب السَّماء ، فلمَّا رأته الملائكة نفرت عن أَبواب السَّماء وقالت : (إِلٰهين ؛ إِلٰه في الأَرض وإِلٰه في السَّماء ، فأمر اللَّـه جبرئيل فقال : (اللَّـه أَكبر...) ، فتراجعت الملائكة نحو أَبواب السَّماء وعلمت أَنَّه مخلوق ؛ ففتحت الباب ، فدخل رسول اللَّـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حتَّىٰ انتهىٰ إلى السَّماء الثانية ، فنفرت الملائكة عن أَبواب السَّماء فقالت : (إِلٰهين ؛ إِلٰه في الأَرض ، وإِلٰه في السَّماء) فقال جبرئيل : (أَشهد أَنْ لا إِلٰه إِلَّا اللَّـه ...) فتراجعت الملائكة وعلمت أَنَّه مخلوق ثُمَّ فُتح الباب فدخل عليه السلام ... »(72). ودلالة الجميع قد اِتَّضَحَتْ ، ولا غبار عليها ، فتأمَّل جيِّداً .